فورين بوليسي: عبد الله الفخراني.. كيف صارت الصحافة المهنة الأكثر خطورة في مصر؟

نشرت مجلة فورين بوليسي على موقعها على الإنترنت مقالًا مطولًا للكاتبة الصحفية كريستين شيك المتخصصة في شؤون منطقتي البلقان والشرق الأوسط حول أوضاع الصحفيين في مصر، مستشهدةً بقصة عبدالله الفخراني، مراسل شبكة رصد الذي تحتجزه الشرطة المصرية منذ 2013، والذي تعرفه الكاتبة بشكل شخصي.

تُشير كاتبة المقالة إلى أنها التقت عبدالله الفخراني في أول يوم من الثورة المصرية، التي قامت ضد الرئيس السابق محمد حسني مبارك في يناير من العام 2011. كان ذلك بعد الظهر في ميدان التحرير، وكانت الشرطة تُهاجم المتظاهرين. تطايرت عبوات الغاز المسيل للدموع عاليًا في الهواء، ثم تساقطت على المتظاهرين. جرت بكل ما تستطيع من قوة، لكنها لم تكن سريعة كفاية حتى نال منها الغاز أخيرًا.

ناضلت من أجل الحصول على دفقة هواء، وحينها ظهر شاب بجانبها وجذبها بعيدًا عن الدخان. وأعطاها كوفيته السوداء والبيضاء، وحثها على لف رأسها بها لتغطية أنفها وفمها.

عندما أصبح بإمكانها التحدُّث مجددًا، سألته لمَ لبَّى كل هذا العدد من الناس نداء التظاهر. رد عبد الله قائلًا هذا نتيجة الضغط المتراكم عبر السنين بسبب الفساد والقمع وانعدام الحرية… حينها سقطت المزيد من عبوات الغاز بجانبهم واضطروا للعدو سريعًا. قال الفخراني حينها إنه يدرس الطب في جامعة عين شمس، لكن الأمر لا يُعجبه كثيرًا. كانت الكاتبة حينها مراسلة تُغطي المظاهرات، وقبل أن يرحل أعادت لعبدالله كوفيته.

بحسب الكاتبة، أرسل لها عبد الله طلب صداقة في اليوم التالي على الفيس بوك، وخلال الشهور القليلة التالية التقوا أكثر من مرة. غالبًا ما كانت هذه اللقاءات في المستشفى الميداني، حيث كان عبد الله يستغل مؤهلاته الطبية في تضميد جراح المصابين.

ورغبة منه في الانخراط بشكل أكبر في موجة التغيير التي اجتاحت بلاده انضم عبدالله إلى مبادرة صحفية تدعى رصد التي بدأت كصفحة على فيس بوك في العام 2010 في محاولة لتحدي سيطرة نظام مبارك على الإعلام التقليدي. أصبح للصفحة ملايين المتابعين وفروع عديدة في جميع أرجاء البلاد.

واليوم، بعد ست سنوات، يقبع الفخراني في زنزانة في سجن وادي النظرون شمال القاهرة. حُكم عليه بالسجن المؤبد في 2015، والآن يخضع لإعادة المحاكمة في قضية نشر أخبار كاذبة والانتماء لجماعة محظورة وتشكيل غرفة عمليات بتوجيه من الإخوان المسلمين لإسقاط الحكومة. زاد يأسه كثيرًا بعد ثلاث سنوات خلف القضبان، والآن يواجه احتمال قضاء عشرات السنوات في السجن.

والفخراني واحد من خمسة وعشرين صحفيًا مُحتجزين بسبب عملهم في مصر، وفقا للجنة حماية الصحفيين. أطلق الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أسوأ حملة ضد الإعلام في مصر، وذلك بعد إطاحته بسَلَفه محمد مرسي في انقلاب عسكري في 2013. اقتحمت السلطات القنوات التلفزيونية وصادرت الصحف واحتجزت الصحفيين بشكل عشوائي. قتل سبعة صحفيين، ستة منهم كانوا يقومون بتغطية المظاهرات، بينما قامت القوات المسلحة بقتل السابع في نقطة تفتيش، بحسب تقرير لجنة حماية الصحفيين.

مع ذلك، تعرض الصحفيون خلف القضبان لتجاهل عجيب، والأمر أسوأ بالنسبة لأولئك الذين عملوا في وسائل إعلام متعاطفة مع الإخوان المسلمين مثل الفخراني. على عكس صحفيي الجزيرة الإنجليزية، لم تكن هناك أي حملات للإفراج عنه، ولم يحظ بأي محام شهير، ولم يقم أي دبلوماسي بإطلاق تصريحات تطالب بالإفراج عنه.

يقول عبدالله في رسالة له كتبها في 2015: «لقد كنت ساذجًا، على الأقل في الأيام الأولى من احتجازي، ظننت أن العالم سيهتم بالدفاع عني».

رحلة الفخراني

مصور

في الشهور التالية لثورة يناير، كثيرا ما التقت الكاتبة مع الفخراني أثناء التظاهرات، وأحيانا كانا يلتقيان في المقاهي ليناقشا أوضاع المظاهرات في مصر. كان متحمسًا ومتفائلا على الرغم من الإشارات المتزايدة بأن المجلس العسكري الذي حلَّ مكان مبارك غير مهتم بإجراء إصلاحات ديمقراطية في مصر.

وفي مايو 2011، هاجم حشد من المتظاهرين كنيسة في إمبابة، وهو حي في الجانب الغربي من مدينة القاهرة. كانت الأجواء متوترة في المنطقة حتى بعد مرور يوم على الحادثة، وبدأ رجلان في تتبع الكاتبة وزميليها، بينما كانا يُعدان تقريرًا عن الحادثة. أحس الفريق بالخطر، ولكن قبل أن يستطيعوا المغادرة تحول الرجلان إلى حشد كامل، وبدا عليهم الغضب والعنف. في هذه الأثناء وجد الفريق كردونًا أمنيا فاحتموا به لفترة.

لكن الكاتبة ظلت عالقة في إمبابة، وكان من الصعب عليها المغادرة وحيدة، لهذا اتصلت الفخراني وشرحت له الوضع، فأخبرها أن تنتظره في مكانه، وخلال نصف ساعة كان الفخراني قد رافقهم إلى مأمنهم خارج المنطقة.

بحسب الكاتبة، فإن معظم أصدقاء الفخراني لديهم قصص مشابهة عنه. شخصيته الجذابة مكَّنته من بناء شبكة واسعة من العلاقات، وهو أمر مفيد لشبكة صحفية ناشئة مثل رصد. دور الفخراني الرئيسي في رصد كان التواصل مع الوكالات الأجنبية مثل وكالات الأنباء التركية والألمانية، وسافر كثيرًا لحضور مؤتمرات ودورات تدريبية في الصحافة. وكذلك قام بإرسال العديد من التقارير حول تطورات الأوضاع والمظاهرات في مصر، حيث نشرت في منصات رصد المختلفة على فيس بوك وتويتر ورسائل الـSMS للمشتركين. أصبح الفخراني- سريعًا- عضوًا في الفريق المركزي في رصد، على الرغم من استمراره في دراسته الطبية. عمل بنشاط شديد وابتسامة دائمة تعلو وجهه. يقول عنه خالد نور الدين، أحد مؤسسي رصد: «كان الفخراني دائمًا يأخذ بزمام المبادرة، ويتقدم للأمام ويطرق جميع الأبواب».

نما فريق رصد بسرعة، فأثناء مظاهرات يناير 2011، كان عدد الفريق المركزي 22 شخصًا نشروا شهادات من متطوعين في جميع أرجاء البلاد، وكان عدد متابعيها حينها بين 300 ألف و400 ألف متابع على فيس بوك، وهو الرقم الذي ارتفع إلى أربعة ملايين بحلول يوليو 2013. تمتلك الصفحة الآن أكثر من 10 ملايين متابع، وتعمل بشكل خفي في مصر. يعيش «نور الدين» في تركيا وصحفيو الشبكة في مصر لا يستعملون أسماءهم الحقيقية. يقول نور الدين إنه على الأقل تسعة من صحفيي رصد يقبعون الآن في السجن، لكن خمسة منهم فقط معروفون بارتباطهم بالشبكة.

بعض أفراد فريق رصد كانوا أعضاءً في الإخوان المسلمين، ولكن «الفخراني» أخبرها أنه لم يكن عضوًا في الجماعة، وهو ما أكده نور الدين. يقول إن رصد ليس لها ارتباط بالجماعة أبعد من انتماء بعض أفراد الفريق. لكن تغطية رصد كانت منحازة بشكل واضح للتيار الإسلامي، الذي تصدَّر في جميع الانتخابات منذ الثورة وحتى سقوط مرسي.

كان مرسي الرئيس الأول في تاريخ مصر الذي جاء عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وفاز بفارق ضئيل عن منافسه الموالي لنظام مبارك في انتخابات 2012. جاء فوزه بعد موجة من إجراءات المجلس العسكري التسلُّطية من بينها حله لمجلس الشعب الذي يقوده الإخوان. لكن مرسي، الذي كان أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين، أثبت عدم قدرته وكفاءته في الحكم؛ بسبب البيئة المعادية التي عمل فيها، إذ وقفت ضده مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام الرئيسية. خطاباته واللغة الطائفية لمؤيديه أدت لتهميش الكثيرين من غير الإسلاميين. بحلول صيف 2013 كان مرسي في ورطة حقيقية وسط استقطاب إعلامي وشعبي حاد.

الحب على خطوط النار

بينما كان الجميع حوله يستعدون للمعركة، كان الفخراني جاهزًا للوقوع في الحب. في ورشةٍ نظمتها رصد حول استراتيجيات إعلام منصات التواصل الاجتماعي في مايو 2013، التقى الفخراني بفتاة شابة تركت منزلها الذي يقع في دولة عربية أخرى لحضور الورشة.

سرعان ما انجذبا لبعضهما، إذ وجدته ذكيًا ومُنفتحًا يحترم النساء، وأحبت كيف كان دائما مبتسمًا. كان الفخراني متيمًا بها- على حد تعبير محمد سلطان- وهو ناشط قضى ما يقرب من سبعة أشهر في السجن نفسه مع الفخراني. ارتبط الاثنان بحبهما للغة العربية، ولحماسهما الشديد للتغيير الديمقراطي في مصر. كانا يخوضان نقاشات طويلة بعد جلسات الورشة كل يوم، بحسب الفتاة التي طلبت عدم الكشف عن اسمها؛ لأن أسرتها لا تعلم بعدُ عن علاقتهما.

قبل يوم من مغادرتها القاهرة، فاجأها الفخراني طالبًا يدها للزواج، لكنها لم ترد عليه وقتها. لكن بعد عودتها إلى منزلها استمرا في الحديث بشكل يومي، واتفقا على أن يسافر الفخراني إلى حيث هي؛ كي يلتقي أسرتها في أغسطس من العام 2013 ويطلب يدها للزواج من أبيها.

لكن مسار الأحداث السياسية في مصر رفض منحه هذه الفرصة، فمع نهاية يونيو انطلقت مظاهرات حاشدة في أرجاء القاهرة تطالب مرسي بالاستقالة، بعدها بأيام قام وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي بالسيطرة على السلطة في البلاد.

احتفل العديد من المصريين بسيطرة الجيش زاعمين أنه ليس انقلابًا بل ثورة، ووصفوا مرسي ومؤيديه بالإرهابيين. بينما اعتبرها الفخراني ضربةً قاضية للديمقراطية في مصر، وكانت تغطية رصد مضادة بشدة للانقلاب. شهدت القاهرة حينها ساحتي اعتصام كبيرتيْن، اعتصم فيها آلاف المتظاهرين مطالبين بعودة مرسي. الكثير منهم كانوا من الإسلاميين، وكان أعضاء الإخوان المسلمين هم الدعائم الأساسية لهذه الاعتصامات.

ساعد الفخراني ومعه محمد سلطان في الحفاظ على بث فيديو دائم لميدان رابعة العدوية، حيث كان لديهم تصور أن وسائل الإعلام الأجنبية تُصوِّر المتظاهرين بشكل خاطئ على أنهم أعضاء غاضبون من الإخوان المسلمين بدلا من تصويرهم على أنهم مواطنون مصريون غاضبون بسبب استيلاء الجيش على السلطة بطريقة غير ديمقراطية. يقول محمد سلطان، وهو مزدوج الجنسية، نشأ وترعرع في الولايات المتحدة، ولم يكن عضوا في جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أن والده يشغل منصبًا قياديًا فيها، إن الفخراني تحدث مع المراسلين الأجانب الذين عرفهم مطالبًا إياهم بتغطية أكثر إنصافًا للمظاهرات.

في الرابع عشر من أغسطس 2013، قامت القوات الأمنية ببدء عملية فض الاعتصام دامت ما يقرب من 12 ساعة، وقتل فيها ما يقرب من 1000 شخص معظمهم من المتظاهرين السلميين، وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس. كان الفخراني حاضرا أثناء عملية الفض وتمكَّن من الوصول إلى منزله في وقت متأخر من الليل مع جراح طفيفة في ذراعه.

أعلن النظام الجديد الحرب على جماعة الإخوان المسلمين وكل من يعارض الانقلاب العسكري، وأطلق حملة اعتقالات واسعة شملت قادة وكوادر الجماعة والصحفيين المتعاطفين مع الإسلاميين والمتظاهرين والنشطاء. قضى الفخراني وسلطان عشرة أيام بعيدًا عن منازلهم في محاولة لتجنب الاعتقال. مكثا سويًا ومعهما سامحي مصطفى من فريق رصد، وكذلك محمد العادلي من قناة أمجاد في شقة سويًا طلبًا للأمان. كان الفخراني يجمع صورًا ومعلومات عن قتلى اعتصام رابعة لصالح المنظمة الأورومتوسطية لمراقبة حقوق الإنسان.

«أوقعت بهم أخيرًا رغبة محمد سلطان في الحصول على ملابس داخلية نظيفة».

استطاع الثلاثة الآخرون الحصول على ملابس جديدة قبل وصولهم إلى الشقة، لكن محمد سلطان، الذي لم ينشأ في مصر، ولم يعرف أين يجد ملابسًا على مقاسه . اضطر الأربعة للذهاب لشقة والدي محمد للحصول له على ملابس تُناسبه، إلا أن توقيتهم كان غاية في السوء حين اقتحمت الشرطة المنزل بحثًا عن والده الذي لم يكن موجودًا، لكنها سعدت بأي حال بحصولها على هذه الجائزة القيِّمة المكونة من أربعة نشطاء شباب.

عندما شاهدت خطيبة الفخراني الأنباء، التي تتحدث عن اعتقاله على صفحات أصدقائه قبل عدة أيام فقط من الموعد المُتَفق عليه للقاء أسرتها، لم تُصدِّق في البداية، ثم أصبحت تتساءل عن مدة احتجازه.

قبلها بعدة أيام، كان الفخراني قد أعطاها كلمات المرور لحسابات التواصل الاجتماعي الخاصة به؛ تحسبا لوقوع أمر كهذا. تقول هي إن الوقت كان ليلا حين بدأت في الدخول على حساباته، وإلغاء تفعيلها واحدًا تلو الآخر حتى لا تستخدمها الشرطة ضده، ثم ظلت تبكي حتى طلوع الشمس.

خلف القضبان

مظاهرات

بحسب الكاتبة، بعد ستة أشهر من اعتقال الفخراني، كانت تتصفح صفحته على الفيس بوك حين رأى منشورًا من حسابه. كانت الكاتبة تتابع أخبار قضيته من وسائل الإعلام، حين كان الفخراني ما زال محبوسًا على ذمة القضية، لهذا تساءلت عن كيفية تمكنه من كتابة هذا المنشور.

قامت بإرسال رسالة له تسأله إن كان قد خرج من السجن، ردَّ عليها الفخراني بعدها بستة أيام قائلا «لا، ما زلت في السجن، ولكني أمتلك هاتفًا ذكيًا في الزنزانة».

لم تقتنع أن هذا هو الفخراني فعلا، فربما كانت الأجهزة الأمنية قد استولت على حسابه، لكن الفخراني بدأ يخبرها كيف التقيا في إحدى المقاهي، لكنها ظلت غير مقتنعة وأخبرته أن عليه بذل جهد أكبر لإثبات الأمر، فأجابها عبد الله: «الحصان في ميدان التحرير أثناء معركة الجمل».

تروي الكاتبة، في فبراير 2011، حين أرسل النظام موالين له على ظهور الجمال لاقتحام ميدان التحرير في محاولة لإخراج المتظاهرين، فإنها قابلت الفخراني في اليوم التالي هناك في زقاق ضيق قرب المستشفى الميداني، حيث وجدا حصانًا من بقايا معركة اليوم السابق. بدا الحيوان مُتعبًا، فقام الفخراني بالتربيت على أنف الحصان لمواساته. اقتنعت الكاتبة أخيرًا بأنه الفخراني فعلا في هذه اللحظة.

وفقًا لسلطان، حافظ الفخراني على تفاؤله وكرمه خلال السبعة شهور التي قضياها معًا. كان سلطان قد أُصيب في ذراعه أثناء فض اعتصام رابعة العدوية، وأثناء «التشريفة» التي تقيمها الشرطة المصرية للسجناء الجدد، حاول الفخراني حماية سلطان بجسده.

يقول سلطان “لقد كنا حرفيًا مُلقييْن على الأرض في حين كانوا يضربوننا. في وضع كهذا، يحاول الفرد إنقاذ أعضائه الرئيسية من التعرض للأذى، لكن الفخراني كان يتحول بجسده يمنة ويسرة في محاولة لتلقي بعض الضرر عن ذراعي المصابة».

كان الفخراني قادرًا على إقامة علاقات شخصية مع زملاء السجن والحرس للحصول على بعض الراحة له ولشركائه في الزنزانة. نجح في الحصول على هواتف مهربة، ونفَّذ خطة جريئة للحصول على قضيبين صُلبين كانوا بحاجة إليهما لإجراء عملية بدائية لتخفيف الألم عن ذراع سلطان. كان معروفًا بحفاوة استقباله للمعتقلين الجدد، وإيجاد طرق للحصول على الأشياء الأساسية التي يحتاجونها.

بعد شهر من اعتقاله، أرسل الفخراني أول رسالة نصية لخطيبته تحوي سطرًا من نشيد إسلامي قديم يُذكِّرها بحبه. لاحقًا في تلك الليلة أرسلت له «أشتاق إليك»، وكانت هذه أول مرة تقولها له، فرد عليها مازحًا: هل كان من الضروري أن يتم اعتقالي حتى تبوحين لي؟

في الأشهر الأولى كان يُكلمها مرة في الأسبوع، كان ذلك حين كان باستطاعتهم تأجير هاتف نقَّال مُهرَّب من السجناء الآخرين مقابل مبلغ مالي كل ليلة. تقول إنه كان يخبرها أنه سيخرج قريبًا؛ لأنه صحفي، ولن تسكت المنظمات الحقوقية والإعلامية عن وضعه هذا. وبحلول فبراير 2014 استطاع الفخراني وزملاؤه في الزنزانة الحصول على هاتفين خاصين بهما، وأصبح يتصل بها بشكل يومي. لم يكن الأمر دون مخاطرة، فحين قام الحراس باكتشاف الهاتف مرةً، قضى عشرة أيام في الحبس التأديبي، حيث تم وضع عشرة سجناء في زنزانة صغيرة جدًا مُخصصة للحبس الانفرادي، ومنعوا عنهم الملابس والأغطية وأعطوهم دلوًا واحدًا لقضاء حاجتهم.

لكن الأمر كان يستحق المخاطرة بالنسبة للفخراني. بحسب سلطان، كان الفخراني يخوض صراعًا داخليًا حول علاقته بخطيبته. هل يعفيها من مسؤولية الارتباط بشخص مجهول المصير قد يواجه عشرات السنوات في السجن. كان يعلم أن إنهاء العلاقة هو الأمر المنطقي الذي يُمكنه القيام به، لكنه لم يستطع إقناع قلبه بفعل ذلك. لقد حاول فعلًا وخاض معها حوارات عن هذا الأمر، لكنه لم يستطع وبادلته هي الحب بالقوة نفسها.

سجن وسائل الإعلام

التحرير

عُرِفت قضية الفخراني في وسائل الإعلام المصرية باسم «غرفة عمليات رابعة»، إذ يُحاكَم هو و50 آخرين من مختلف الانتماءات السياسية، من ضمنهم 5 صحفيين على الأقل بالإضافة إلى كبار قادة الإخوان مثل محمد بديع، المرشد العام للإخوان المسلمين في 2013.
مثَّل ضم قادة الإخوان لقضية الصحفيين محاولةً واضحة من النظام لوصمهم بحُمى كراهية الإخوان التي اجتاحت مصر عقب الانقلاب، وهو ما تقول عنه ياسمين الرفاعي، إحدى الباحثات الرئيسيات في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لحماية الصحفيين حتى وقت قريب، إنه صاغ إدراك العامة للمحاكمة، مُضيفةً: «أعتقد أنهم كانوا يعتمدون على ضياع قضيته وسط حالة الصخب التي صاحبت القمع الذي تلا ذلك».

وتشير كاتبة المقال إلى أن الفخراني متهم بالانتماء لجماعة محظورة، ونشر أخبار كاذبة، وحيازة جهاز اتصال لاسلكي، بالإضافة إلى إنشاء «غرفة عمليات» لإدارة وتوجيه عمل جماعة الإخوان المسلمين ضد الحكومة أثناء فض اعتصام رابعة.
ومثل العديد من المحاكمات السياسية في مصر مؤخرًا، لم يصنع غياب الأدلة فارقًا كبيرًا في قضية الفخراني. كان الدليل الوحيد المُقدَّم ضد الفخراني هو سجل استجوابه على يد ضباط الأمن. أنشأت المحكمة لجنة فنية من الخبراء لتقييم الصور ومقاطع الفيديو، التي زعم الادعاء كونها مزورة، إلا أن أيًا منها لم يكن كذلك، بحسب ما توصلت إليه اللجنة.

كان القاضي الرئيسي في المحاكمة الأولى هو ناجي شحاتة، القاضي سيء السُمعة، والمشهور بأحكام الإدانة في قضية الجزيرة وبأحكام الإعدام. لم ينتظر شحاتة حتى انتهاء دفاع جميع المتهمين، وأصدر حكمًا  بالإدانة على جميع المتهمين في أبريل 2015، فحكم بالإعدام على 14 شخصًا منهم بديع ووالد سلطان بتهمة التخطيط لهجمات ضد الدولة. أما الآخرون، ومن ضمنهم الفخراني، فحُكم عليهم بالسجن المؤبد، وهو ما يعني 25 عامًا في مصر.
تقول كاتبة المقال، كريستين تشيك، إنها أرسلت رسالة عبر فيس بوك إلى الفخراني بعد الحكم، رد عليها بقوله: «على الأقل، ما زال بإمكاني استخدام الإنترنت. لن أتخلى عن النضال، وسأنال حريتي بالتأكيد في النهاية. ربما عام أو 2 أو 3، لكنني سأنالها في النهاية، لقد خضعت لمحاكمة صورية، دون أدلة، لذا فسيُلغي الاستئناف الحكم بالتأكيد».
كان مُحقًا بشكل جزئي، ففي ديسمبر 2015، ألغت محكمة استئناف القاهرة الحكم لعدم كفاية الأدلة، وقضت بإعادة المحاكمة. لم يُقدِّم الادعاء أي أدلة ضد الفخراني في المحاكمة الجديدة التي بدأت في فبراير 2016، سوى سجل التحقيق معه، بحسب محامية أحمد حلمي.

أجمل سنوات العمر

الفخرانى_والدته

زارت الكاتبة والدا الفخراني في فبراير 2016 في بيتهما، كانت والدته تستعد حينها لزيارته في اليوم التالي بطهي الطعام الذي يحملانه لابنهما ورفاقه في الزنزانة، إذ يعتمد معظم السجناء على الطعام القادم من عائلاتهم. وعادةً ما يجلب والدا الفخراني حوالي 20 رطلًا من اللحم أو الدجاج إلى ابنهما.

تسرد «كريستين» زيارتها لهما، وكيف حكى والده عن المرة التي حملا فيها ملابس ثقيلة لابنهما ورفاقه، وكيف أبدى الحراس إعجابهم بها، وهو ما يعني أنهم سيأخذون بعضها على الأغلب.

تدهورت حالة عبد الله في يناير 2016 من السيء إلى الأسوأ، بعد نقله من سجن «طره» إلى سجن وادي النطرون. رفض الحُرَّاس السماح لوالديه بإحضار الطعام والملابس بشكل تعسفي، بل ومنعاهما من الزيارة أحيانًا. لم يعُد بإمكانه الوصول إلى هاتف محمول. كما نُقل مؤقتًا إلى سجن العقرب سيء السمعة أثناء جلسات الاستماع في محاكمته.

نقلت كريستين عن والده أيضًا مدى التدهور الذي أصاب حالته النفسية، «في المرتين الأخيرتين اللتين رأيناه فيهما، لم يكن بحالة جيدة. كان يبكي كثيرًا، بينما يقول: لا أحب أن تأتيا لترياني بهذا الوجه».

وصف محمد سلطان، الذي أُفرج عنه في 2015 بعدما أوشك على الموت جرَّاء إضرابه عن الطعام، وبعد تنازله عن الجنسية المصرية، السجن بأنه «مقبرة رجل حي»، مضيفًا أن الحصول على هاتف يُعد بمثابة الحصول على شريان للحياة، من دونه يتواصل الفخراني عبر الرسائل المُهرَّبة.

أما الجزء الأصعب في السجن- بحسب ما نقلت الكاتبة عن سلطان- فهو «رؤية أجمل سنوات عمرك وهي تمر أمام ناظريك، إنها تُسرق منك، كان يُمكنك أن تتقدم في وظيفتك، وتبني علاقاتك، وتتزوج وتنجب أطفالًا. أعتقد أن هذا هو ما يقضي على عبد الله، لم يعتقد أحد أن الأمر سيستمر لكل هذا الوقت، ظن الجميع أنها ستكون فترة قصيرة وتنتهي».

تعجُّ السجون المصرية بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين الذين جرى اعتقالهم منذ انقلاب 2013. يُقدَّر عدد السجناء السياسيين في مصر حاليًا بحوالي 60 ألف سجين سياسي في مصر، بحسب تقرير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان الصادر في سبتمبر 2016. كما تُشير الكاتبة إلى القلق السائد من أن تُغذِّي الحملة الدموية التي شنتها الحكومة التمرد الجهادي المتزايد، وأن تصبح السجون أرضًا خصبة لموجة جديدة من الجهاديين.

كتب الفخراني لكريستين خطابًا من صفحتين في أكتوبر، قائلًا إن التغييرات التي مر بها في السجن لن تتضح إلا بعد إطلاق سراحه، إلا أنه تعرَّض لـ«تحولات نوعية» كما قال، مضيفًا أن «الكفاح من أجل الحرية» كان حدثًا للتغطية من قبل، إلا أن «أيامي في السجن علمتني أن الحرية هي حياة تستحق النضال من أجلها».

وتابع الخطاب «تخيل أن تعيش تجربة اجتماعية مع 30 شخصًا من مختلف الأطياف الاجتماعية في غرفة صغيرة. من المفاجئ أن السجن قد علمني التعامل مع الإنسان لا مع الطبقية الاجتماعية».

وفقًا للكاتبة، بدأ الفخراني إضرابًا عن الطعام في سبتمبر 2016؛ اعتراضًا على غياب العلاج الطبي اللازم له بعدما عانى من صعوبة في الحركة إثر ورم غير مفهوم في قدمه. وكتب في خطاب هُرِّب من السجن في سبتمبر أن مسؤولي السجن رفضوا طلب تحويله إلى المستشفى لتشخيص المرض. نقص وزنه من 175 رطلًا إلى 110 بعد إضرابه عن الطعام.

وفي الخطاب، الذي أرسله إلى خطيبته في بداية نوفمبر، أخبرها أنه كسر إضرابه عن الطعام بشكل جزئي ليتمكن من تناول مسكنات الألم. قبل أن يُنهي الإضراب في بداية ديسمبر بسبب تدهور حالته الصحية.

كان تأثير السجن على الفخراني أكبر من أي حدث مر به في حياته. تشير الكاتبة إلى الخطاب الذي أرسله لها في أكتوبر «حين سألتني من ثلاثة أعوام، لم يكن إطلاق سراحي هو الأولوية الرئيسية لي، بل كان استعادة مناخ الحرية، وحرية الرأي والتعبير. إلا أنه بعد ثلاثة أعوام من السجن غير القانوني، فإن أملي الأكبر هو إطلاق سراحي، إطلاق سراحي من قبضة الظلم والظالم. على الرغم من علمي بأن إطلاق سراحي من  السجن لن يُعيدني حرًا مثل السابق».

لكن الصراع لم يقضِ على حسه المثالي، حيث كتب قائلا: «على غير المتوقع، وفي مواجهة كل الاحتمالات، ما زالت تُشعل الثورة المصرية أرواح الشباب، وما زال النظام يشعر بالخوف من نهضة جديدة لانتفاضة الشباب المصري».

قد يكون اليوم الذي يسقط فيه النظام المصري الحالي بعيدًا، ولكن بالنسبة للفخراني فإن الأيام ما زالت حُبلى بالانتصارات على المستوى الشخصي والسياسي. يقول بعبارات عربية أنيقة في نصٍّ كتبه الصيف الماضي مُباركًا لمحمد سلطان خطبته «لا يستطيع قلمي وصف مشاعري في هذه اللحظة. تختلجني سعادة ممزوجة بالفرح. سعادة نابعة من كونك حرا قادرا على أن تتزوج، وفرِح بإكرام الله لك».

يضيف الفخراني في رسالته قائلا «أسأل الله أن يرزقنا جميعًا الحرية قريبًا، ويرزقني الزواج ممن أحب» وأنهى الرسالة بابتسامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق