قطب العربي يكتب : جدلية العلاقة بين الإعلامي والسياسي

مثل الكثير من التشوهات في بيئتنا العربية وفي العالم الثالث عموما، تبدو العلاقة “الشائهة” بين شخصيتي الإعلامي والسياسي، وهي العلاقة التي تسمح بتحول الإعلامي إلى سياسي دون دراية كافية بقواعد العمل السياسي، وتحول السياسي إلى إعلامي دون معرفة لقواعد المهنة، فيحدث التشويه في كليهما، دون أن نتمكن من صناعة طبقة سياسية أو إعلامية مميزة تنافس نظيرتها في الدول المتقدمة. جاءت ثورات الربيع العربي لتعزز هذا التشوه من حيث لم تقصد، حيث أغوت أضواء الحرية الكثير من الساسة بالعمل الإعلامي، كما أغوت أجواء التنافسية السياسية الكثير من الإعلاميين بالعمل السياسي، ويمكن القول إن هذا الأمر طبيعي في بيئة سياسية وإعلامية غير مستقرة، كانت ولا تزال تحت التشكل قبل أن تباغتها الثورات المضادة فتقضي على نموها بفعل آلة القمع وتكميم الأفواه، وقتل السياسة. في الأصل يعتبر السياسي هو المصدر بالنسبة للإعلامي، لكن حالة الضعف التي تعتري الكثير من السياسيين أو حتى غيابهم عن الساحة تدفع الكثير من الإعلاميين لملء ذلك الفراغ بحكم ما يمتلكونه من رؤى سياسية أو شبكة علاقات صنعوها خلال عملهم الإعلامي، ويتصور بعض هؤلاء الإعلاميين أن نجوميتهم في الصحف والشاشات كفيلة بتمريرهم شعبيا في الاستحقاقات الانتخابية لكنهم يصدمون من النتائج التي تأتي بأصحاب الخبرات السياسية الحركية والتنظيمية القادرين على حشد وتعبئة الناخبين بطرق مختلفة لا يجيدها الإعلاميون، أو لا يقدرون عليها رغم معرفتهم بها، وكتابتهم عنها.

نشطاء أصبحوا إعلاميين

صنعت ثورات الربيع العربي من الكثير من نشطائها نجوما إعلاميين، حين قاموا بدور المراسلين الميدانيين للكثير من الصحف والقنوات التي لم تستطع أن تغامر بمراسليها المحترفين وتزج بهم في ساحات المعارك كما هو الحال في سوريا.

وقد استطاع الكثير من هؤلاء النشطاء تعلم المهنة سريعا، وسعوا لتطوير مهاراتهم الإعلامية وهو ما نقلهم إلى مصاف الإعلاميين المحترفين في حين ظل البعض على حاله يراوح بين العمل النضالي -الذي يعتبره الأصل- والعمل الإعلامي الذي يعتبره الفرع، ويتطوع للقيام به لنقل التطورات الميدانية من زاويته حتى لا يترك المجال لإعلام النظم الحاكمة لتبث الروايات التي تريدها.

في عالم السياسة يفترض بالسياسي المحنك أن يكون قادرا على كتم أسراره، وعدم البوح إلا بما يخدم قضيته، وفي عالم الصحافة يفترض بالصحفي الماهر أن ينتزع الأسرار والمعلومات من الساسة لينقلها إلى عموم المجتمع المستهلك الرئيسي لتلك الأخبار، فمهمة الصحفي هي تنوير المجتمع وإمداده بالمعلومات حتى يتمكن من مراقبة أداء ساسته وقياداته، وحتى يستطيع تكوين وجهات نظر موضوعية حول الوقائع والأحداث الجارية.

ولذا تشتعل معركة حرية/سرية المعلومات بين السياسي والإعلامي، وتزخر دساتير الدول المتقدمة بنصوص عن حرية تدفق المعلومات، ومعاقبة من يمتنع عن منحها، وقد مكنت ثورات الربيع العربي بلدانها من اللحاق بتلك المنظومة المتقدمة فنصت في دساتيرها التي صاغتها بعد الثورات على ذاك الحق، كما هو الحال في مصر وتونس واليمن.

لكنها فرحة لم تكتمل بفعل الثورات المضادة التي أبقت تلك النصوص حبرا على ورق، وخالفتها بشكل علني، بل عمد القادة الجدد في مصر إلى استعادة أنماط قديمة تعود للخمسينات والستينات في التعامل مع الإعلام، واعتباره مجرد بوق للنظام يسوق سياساته، ويبررها، ويقنع المواطنين بها، ولا يسمح لأية أصوات مستقلة بالعمل بحرية، بل تسعى السلطة الحاكمة للهيمنة التامة على الخارطة الإعلامية من خلال تأسيس قنوات وصحف ومواقع وشراء بعض القائم منها عبر أجهزة أمنية سيادية بشكل ظاهر أحيانا، ومستتر أحيانا خلف بعض رجال أعمال.

إعلاميو الثورة المضادة

تدرك الأنظمة المستبدة ومن بينها تلك العربية أن وسائل الإعلام لا تقل أهمية عن الجيوش الميدانية، فتحرص على الهيمنة عليها، وتغدق عليها الأموال رغم أنها تعاني من عجوزات مالية قاسية، وهذا ما يظهر بجلاء في غالبية الدول العربية.

“تدرك الأنظمة المستبدة ومن بينها تلك العربية أن وسائل الإعلام لا تقل أهمية عن الجيوش الميدانية، فتحرص على الهيمنة عليها، وتغدق عليها الأموال رغم أنها تعاني من عجوزات مالية قاسية، وهذا ما يظهر بجلاء في غالبية الدول العربية”

وكما كان غوبلز وزير الإعلام النازي هو أشهر شخصية في ألمانيا بعد هتلر، فقد صنعت الديكتاتوريات العربية نماذجها “الغوبلزية”، فكان هيكل في مصر، والصحاف في العراق، وبثينة شعبان في سوريا، وكلهم كانوا يتبنون نظرية “الكذبة الكبرى” دفاعا عن الأنظمة التي ينتمون إليها، ومضمونها اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.

باغتت الشعوب العربية نظمها القمعية ومنظوماتها الإعلامية بضربات مفاجئة في ثورات الربيع، ولجأت تلك النظم إلى الإعلام مجددا لاستعادة سلطتها أو جزء منها، فأغدقت الأموال على وسائل الإعلام، وعلى الإعلاميين الذين تحولوا إلى ساسة ونشطاء يوجهون الرأي العام، ويحركونه للتمرد على الحكومات الشرعية التي جاءت عبر صناديق انتخابية شفافة، وتخلى الكثير من الإعلاميين في مصر وتونس تحديدا عن أي اعتبارات مهنية، ليمتشقوا سيوفا يرفعونها في وجه الحكومات المنتخبة، ويحولوا برامجهم إلى برامج تعبئة ميدانية.

بل إن الكثيرين منهم قادوا المظاهرات في الشوارع بالفعل، واحتضنوا حركات معارضة في مقار صحفهم وقنواتهم كما حدث مع حركة تمرد في مصر، وحولوا بعض الأحداث الثانوية إلى حشد شعبي كما حدث أثناء استدعاء الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف إلى مكتب النائب العام للتحقيق معه في تهم سب وقذف، إذ لم يذهب الإعلامي بصحبة محاميه فقط أو حتى أصدقائه المقربين بل وسط مظاهرة كبيرة من معارضي الرئيس المنتخب محمد مرسي.

في الدول الديمقراطية استقرت العلاقة بين السياسي والإعلامي، وقنع كل منهما بالدور الذي يؤديه لخدمة مجتمعه، ولا تقل مكانة الإعلامي في تلك الدول عن مكانة السياسي بل يحرص كثير من الساسة على كسب ود الصحفيين والإعلاميين للاستفادة من منابرهم في تسويق سياساتهم ومشروعاتهم، وفي الوقت نفسه تجنب انتقاداتهم التي قد تنهي حياتهم السياسية أو تعطبها.

وخلافا لذلك ففي الدول الشمولية لايزال الساسة الذين يديرون البلاد هم أصحاب المكانة الرفيعة، ويحرص الإعلاميون بمن فيهم الذين يعملون في مؤسسات حكومية على كسب ود الساسة حتى يتجنبوا شرورهم، أو حتى ينالوا رضاهم فيتمتعوا بامتيازات عينية ومعنوية لا تتاح لغيرهم، وفي الدول الديمقراطية يستطيع الإعلامي أن يطيح بزعيم سياسي أو بحزب كامل من الحكم حين ينشر معلومات خاصة عنه (فضيحة ووتر غيت نموذجا) وفي الدول الشمولية يستطيع السياسي صاحب السلطة أن يدير المنظومة الإعلامية بالكامل عبر هاتفه النقال، وهو ما يحدث في الكثير من بلداننا العربية.

صحافة حزبية نموذج للتشوه

من مظاهر التشوه الإعلامي السياسي في أكبر دولة عربية (مصر) وجود ما يسمى بالصحافة الحزبية، وهي صيغة سمحت بها الدولة أواخر السبعينات مع بدء السماح بالتعددية الحزبية الشكلية، وكان من حق كل حزب أن يصدر صحيفة أو أكثر، وكانت هذه الصحف الحزبية بمثابة انفراجه نسبية في ذلك الوقت الذي لم يكن أمام المواطن المصري سوى الصحف الحكومية (القومية) والتليفزيون الحكومي أيضا، وهي صيغة صحفية لا مثيل لها في الدول المتقدمة، إذ لا يوجد في بريطانيا مثلا صحيفة أو قناة لحزب المحافظين أو حزب العمال، وهو ما ينطبق على الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، وغيرهم من الأحزاب في الدول الأخرى بل توجد صحف وقنوات توصف بأنها قريبة من هذا الحزب أو التيار أو ذاك.

ورغم أن غالبية الصحفيين في الصحف الحزبية المصرية حافظوا على استقلالهم السياسي أي لم ينضموا إلى عضوية تلك الأحزاب، فإن الظاهرة أفرزت طبقة من الصحفيين السياسيين أي الذين يجمعون بين الصفتين الصحفية والسياسية، وهو ما سمح للكثيرين منهم بتبوؤ مواقع قيادية في تلك الأحزاب والترشح على قوائمها للانتخابات البرلمانية.

وقد وصل الأمر أن بعضا من الصحفيين أسسوا بعض الأحزاب أو تولوا الرئاسة فيها، مثل أيمن نور مؤسس ورئيس حزب الغد، وحمدين صباحي مؤسس ورئيس حزب الكرامة، وأسامة الغزالي مؤسس ورئيس حزب الجبهة، وعادل حسين الأمين العام لحزب العمل، وحسين عبد الرازق نائب رئيس حزب التجمع، كما نازع على رئاسة حزب الأحرار عدد من الصحفيين العاملين في جريدته.

وحين ظهرت الصحف الخاصة المملوكة لشركات مساهمة في مصر أحدثت قدرا أكبر من الانفتاح السياسي والإعلامي، وبدا الصحفيون العاملون بها أكثر قربا من الحالة المثالية للصحفي الذي يؤدي دوره المهني غير متطلع إلى موقع سياسي، لكن هذه الصحف وما تبعها من قنوات خاصة نشطت بصورة كبيرة بعد ثورة يناير، ولعبت دورا سياسيا رئيسيا في الحشد والتعبئة ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، ودعمت الانقلاب العسكري الذي جرى يوم 3 يوليو/تموز 2013، وظهر رؤساء تحرير تلك الصحف والقنوات وكأنهم رؤساء أحزاب سياسية يقودون حركة الشارع في مظاهراته واعتصاماته.

إن التمييز بين عمل السياسي وعمل الإعلامي ضرورة لتطور المجتمع العربي بشكل عام، حيث سيضطر كل منهما لممارسة دوره بمهنية عالية، قانعا بهذا الدور، حريصا على تطوير مهاراته فيه، وإذا صح أن تكون هذه هي القاعدة العامة في هذا الأمر فهذا لا يعني مطلقا حرمان أي صحفي يرغب في ممارسة العمل السياسي وفقا لقواعد اللعبة، كما لا يمنع أي سياسي من التحول للعمل الإعلامي وفقا لقواعد المهنة، لتصبح في النهاية قواعد “الصنعة” هي الحاكمة في كل مجال.

*نقلا عن الجزيرة نت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق