محمد الباز يكتب: متى يعلنون وفاة الصحافة المصرية؟

تفقد الصحافة المصرية أهميتها عندما يشعر الجميع (حكومة ومعارضة وأهالى) أنها لا تعبر عنهم، ولا تخدم مصالحهم، ولا تعكس آراءهم وأفكارهم، وعندما تصل إلى هذه الدرجة تحاصرها الاتهامات من كل مكان، فهى بلا مصداقية، وهى السبب فى كل الأزمات، بداية من تسخين الشارع الذى ثار فى 25 يناير، وليس نهاية بأزمة الدولار، هى التى تشعل الفتن الطائفية، وهى التى تدفع المتحرشين إلى الشارع، هى التى تشجع الانحلال الأخلاقى، وهى التى تنشر اليأس فى نفوس الناس وأرواحهم، ويمكنك أن تفتح قوسين، وتضع بينهما كل ما تريد من اتهامات هى فى الغالب باطلة.

لا يتوقف الأمر عند اتهام الصحافة بما ليس فيها، وإهالة التراب على وجهها فقط، ولكن يقرر الجميع وبقلب بارد عقابها، والعقاب هنا ليس بالتشويه فقط، ولكن بقطع قنوات تمويلها، اعتقادًا ممن يريدون ترويضها وصياغتها على هواهم، أنهم بتجويع أبنائها يمكنهم أن يحصلوا على الصيغة التى يريدونها بلا تمرد ولا جدال ولا مناقشة.

«الصحافة لا تمول من أموال الزكاة».. قاعدة يعرفها جيدًا من يعملون فى بلاط صاحبة الجلالة، هى صناعة مواردها محددة ومعروفة، التوزيع والاشتراكات والإعلانات، وهى الأموال المعروفة والمعلنة، والتمويل غير المباشر الذى يأتى من جماعات المصالح المختلفة، وجماعات المصالح هذه تبدأ من السلطة الحاكمة وأجهزتها المختلفة، وتصل إلى أى جمعية خيرية عابرة، ترى أن الصحافة يمكن أن تكون سندًا لها.

لن أتحدث هنا عن المبتزين فى المهنة، فهؤلاء موجودون ومعروفون، وأموالهم حرام بشكل كامل، فكما تدخل أموال حلال إلى الصحافة، تدخلها أيضا أموال حرام، وهذه كثيرة ومعروفة.
منذ شهور والأخبار الخارجة من دور الصحف المصرية الحكومية والخاصة لا تبشر بخير، أزمات مالية طاحنة، وتسريح صحفيين بأعداد كبيرة، وتخفيض عدد الصفحات وتقليص مساحات الألوان، فى إشارة واضحة لا يمكن أن يخطئها أحد إلى أن الصحافة المصرية أصبحت عاجزة عن الصدور من الأساس، لا تستطيع أن تصلب طولها، وغير قادرة على المقاومة مجرد المقاومة.

المنافسة بين الصحافة الإلكترونية والصحف الورقية، والتى أدت إلى تراجع توزيع الصحافة الورقية، ليست السبب بالطبع، فالصحافة الإلكترونية هى الأخرى تعانى ضيق ذات اليد، فتكلفتها أكبر بكثير من عوائدها، ولذلك تحتاج إلى من يتدخل ليدفع ويمول، ويمنحها فرصة الاستمرار، فبدون ذلك لن تكون قادرة هى الأخرى على أن تعمل من الأساس.

كثير من الصحف لجأت إلى الاستغناء عن الصحفيين العاملين بها، وهو الدواء المر الذى لا بد من أن نتجرعه، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة على الجميع، حدث هذا فى «البوابة»، كما حدث قبل ذلك فى «المصرى اليوم» و«الشروق»، وكما هو متوقع أن يحدث فى عدد من الصحف الأخرى، التى يعتقد البعض أنها مستقرة، وقادرة على العمل والمنافسة، فكلنا فى «الهم سوا»، تتفاوت أحجام الأزمة، لكنها واقعة لا محالة، ولا يبدو أن هناك فى الأفق رادًا لها.
لكن هل هذه هى الأزمة الوحيدة التى تعانى منها الصحف فى مصر الآن؟

بالطبع لا.. فالأزمة المالية التى تعتصر جسد الصحافة المصرية، لا تختلف كثيرا عن الأزمات التى تلاحق المؤسسات المختلفة التى تئن هى الأخرى وتعانى، وهى أزمات ليست جديدة على المهنة المقدسة، فقد عانت كثيرًا، لكنها فى كل مرة تتعافى وتخرج منها أكثر حيوية وقدرة على العمل، فالصحافة تمرض لكنها لا تموت أبدًا، لأنها ببساطة لا يمكن الاستغناء عنها حتى لو اعتقد الكثيرون عكس ذلك.

المشكلة الكبرى – من وجهة نظرى – أن الصحافة الورقية بوضعيتها الآن وصلت إلى مراحل غير مسبوقة من التردى والانحطاط، لا أتحدث هنا عن الأسباب الخارجة عن إرادتها والتى أوصلتنا وأوصلتها إلى قاع المستنقع، ولكننى أشر وبصراحة إلى ما فينا، وما وصلنا إليه من مستوى مهنى لا يليق بتاريخ مهنة عظيمة لعبت أدوارًا كبيرة فى تاريخ مصر.

فى السنوات الأخيرة دخل الصحافة المصرية جيل لا ينتمى للمهنة بقدر ما ينتمى إلى نفسه، يتعامل بأنانية شديدة، لا يهمه ما سيعطيه للمهنة بقدر ما سيأخذه منها، غير مدرك أنها مهنة ذات طبيعة خاصة، لا تمنحك بعضًا من خيرها، إلا إذا حصلت منك على كل خيرك، إنها لا تمنحك مالًا فقط، بل تمنحك مجدًا أيضًا، والمجد لا يحصل عليه الموظفون الذين يؤدون عملهم بلا روح ولا حماس ولا طموح.

هذا توصيف مناسب لجيل بلا ملامح دخل المهنة دون أن يجيد فنونها، ومع ذلك يجلس أمامك الواحد منهم بعنجهية وغرور لا تعرف له مصدرًا ولا مبررًا، وقبل أن يقول لك ما الذى يمكن أن يقدمه للمهنة، يسألك عن الراتب الذى سيحصل عليه، وعن مواعيد عمله بالساعة والدقيقة (لا يلتزم بها عادة)، وعن مواعيد إجازاته (يلتزم بها كلها بالطبع)، وعن الحوافز التى سيحصل عليها، وكأنك أمام موظف سيلتحق بشركة بيع أحذية، مع احترامى الشديد للأحذية.

هؤلاء مثّلوا ضربة قاتلة للمهنة التى تعرف فيها متى تبدأ العمل، لكن لا تعرف أبدًا متى ينتهى، أصحاب الكفاءة والموهبة يعملون دون سؤال عن العائد، لأنهم على ثقة كاملة أن العائد سيأتيهم حتمًا، وبأكبر مما يتخيلون، أما هؤلاء الذين يدخلون المهنة من باب الموظفين، فإنهم لا بد أن يخرجوا منها من باب الخدم.. يسألون عن العائد قبل أن يعملوا، لأنهم يعرفون أنهم وبمجرد أن يبدأوا عملهم ستنكشف عوراتهم، وسيعرف من استقبلوهم طامحين إلى أن يكونوا إضافة إلى المهنة أنهم ليسوا إلا عبئًا عليها.

لا أهاجم أحدًا ولا أدين أحدًا، بل أقر واقعًا يعرفه الكثيرون ممن يعملون فى الصحافة الآن، لكنهم يتنكرون له، فهذا الجيل سبب نكبتها، لأنه حولها إلى مجرد وظيفة، ساعات عمل بلا روح، لا يحرص أبناؤها على تطوير أنفسهم أو الحصول على تدريب مناسب يمكنهم من ترقية أدائهم، لا يقرأون لا يتابعون حتى ما يتعلق بمهنتهم، يعتقدون أنهم جهابذ، وأن كل ما يكتبونه هو إعجاز كامل لا بد أن تبدى إعجابك به، وإلا فأنت تحاربهم وتنتقص من قدراتهم التى لا يراها غيرهم.

وإذا جربت وصححت الوضع وقدمت نصحًا مباشرًا لهم أو حتى غير مباشر، فأنت بذلك تصادر حق جيل فى تحقيق نفسه، رغم أنك لا تفعل أكثر من إنقاذهم وإنقاذ المهنة من سرطان لا دواء له.

الصحافة المصرية وبمصارحة كاملة تتعرض الآن لأكبر عملية اغتيال مادى ومعنوى، وللأسف الشديد تأتى هذه العملية من داخلها، على يد من ينتمون إليها، وسيكون بعض من الجنون إذا اتهمنا قوى خارجية بالتآمر علينا.

فلو افترضنا أن هناك قوى وأجهزة تريد إعادة تشكيل المشهد الصحفى مرة أخرى، بما يحقق مصالحها ويتسق مع توجهاتها، فهذا لا يشكل خطرًا على الإطلاق، لسبب بسيط أن المشهد لو تم تغييره، فلن يتم إلا بمن يعملون فى المهنة، فلن يأتى المهندسون الجدد للمشهد الإعلامى فى مصر لبلاط صاحبة الجلالة بصحفيين من المريخ، ستتغير أسماء الصحف وأماكنها وبعض توجهاتها، لكن الصحفيين سيظلون هم من يعملون.

الخطر فعليًا منا وفينا وعلينا، راجع الصفحات الأولى من الصحف اليومية، حكومية وخاصة، ستجد حالة بائسة ويائسة للغاية، ليست هذه هى الصحافة التى تليق بمصر، ليست هذه هى الصحافة التى يمكن أن نفخر بها، ونقدم أنفسنا من خلالها، والعيب فينا، فيمن يعملون وهم لا يجيدون أصول المهنة، ولا يتوفرون لها، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، فانتظروا إعلانًا رسميًا لوفاة الصحافة المصرية.

هذا إعلان لن يرضاه أحد، لكنه قريب جدًا، ولذلك فالمطلوب هو عملية إنقاذ كاملة لمهنة تحتضر، مهنة لا أحد يستطيع أن يستغنى عنها، لكن كثيرين يقفون وراء هدمها، بإهمال أحيانًا وجهل أحيانًا أخرى.. وتعمد فى أحيان أخرى.

إننى لا أنعى لكم الصحافة المصرية، لكن أشارككم مخاوفى عليها، إنها مهنة فى محنة.. تتنظر من يأخذ بيدها ممن يهتمون بأمرها، وأرجو ألا يتأخر عنها.. فالبديل خطر لا يقدر أحد عليه.

 *نقلا عن البوابة نيوز

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق