كارم يحيى يكتب : رسالة الى سندس البطاوي

 سندس العزيزة

 ربما قررت الكتابة اليك انت من دون كل أهالى المحبوسين في سجون السيسي ظلما لأنك أصغر من عرفت بينهم . لكنني أكتب من خلالك الى كل أهالى هؤلاء الذين عرفتهم كمحمود الخضيري ومجدي أحمد حسين و هشام جعفر ومحمد الدراوي وهيثم محمدين ومحمد البلتاجي وعمرو بدر و محمود السقا  .. وغيرهم. وكذا الى كل أهالي الذين اصبحت اعرفهم ولم اقابلهم قط كشوكان ويوسف شعبان ومالك عادلي وبالطبع الى ابيك الزميل محمد البطاوي .. وغيرهم. بل وأكتب من خلالك صغيرتي أنت ، التي رأيتها لأول مرة منذ أقل من عام على ذراع والدتها في إحدي وقفات سلم نقابة الصحفيين وهي لاتنطق بكلمتها الأولى بعد ولا تستطيع التعبير عن ألم غياب الأب وراء الاسوار ، الى هؤلاء وأولئك الأهالي لأناس في ظلم المحابس المنتشره بطول وعرض البلاد .

 وبدون ذكر أسماء هل ننسى مثلا عمال الترسانة البحرية الذين يحاكمون عسكريا.. ولمجرد انه ” جيشنا العظيم” الذي يتوغل في كافة جبهات الاقتصاد والخدمات؟..  وهل ننسى المحبوسين في قضايا تظاهر او النيه في التظاهر دفاعا عن مصرية تيران وصنافير ؟.. وهل ننسى غيرهم من المحبوسين في عديد القضايا الملفقة والمحاكمات فاقدة العدالة بتهم الارهاب ونشر أخبار كاذبة و تهديد الأمن القومي ، و غيرها من قائمة “رد هيبة الدولة “؟ .. أو هل ننسي لابسي بدل الاعدام الحمراء بعد محاكمات سياسية هزلية؟ .ولمجرد أنهم “إخوان”.وكم عددهم ؟ .. وهل ننسي أيضا المدنيين المحكوم عليهم عسكريا بالاعدام في قضايا كفر الشيخ وحلوان ؟

أكتب لأنه عندما يحل صيف يونيو على الزنازين القاسية ومعه مشقة صيام شهر رمضان يحق لنا التفكير في تفاصيل حياة آلاف المحبوسين المكتظين في زنازين غير آدمية تهدد بالموت اختناقا .ويحق التفكير أيضا في زملائهم الذين يتنقلون في عربات شواء حديدية داكنة رديئة التهوية بين السجون والنيابات والمحاكم بلا أمل في حرية أو عدالة، باستثناء أمر واحد فقط . لعله متعة اذابة كل هذه المعاناة مع شديد الحرارة في مجرد رؤية الناس يتحركون في الشوارع عبر فتحة صغيرة في العربة. وحتى لو بدا الناس في خارجها مطأطاي الرؤوس . يأكلهم الهم والقهر والغم الذي يطغي على صور الجنرال العملاقة الملونة وشعاره “تحيا مصر ” . وقد انتقل الشعار الذي صادر لوني العلم الأحمر والأسود من موسم الانتخابات الرئاسية المهزلة ليستمر فوق عربات الجيش والشرطة وصناديق جمع الأموال .

 أكتب لأنه يحق أيضا التفكير في تفاصيل حياة كل هذه العائلات التي تستيقظ قبل الفجر لتبدأ رحلة معاناة طويلة كي تظفر بدقائق رؤية لسجين أبن أو أب أو أخ أو زوج  . وقد تكون أو تنتهى الى المصادرة والحرمان . وأفكر فيك على نحو خاص . لأن لدي طفل أكبر منك بسنوات لا بد لي ان أتخيل كيف سيستيقظ مبكرا قبل الفجر ليبدأ رحلة العذاب هذه الى الشمس الحارقة في الصيف أو برد الشتاء كي ينتظر أمام البوابات المغلقة والأسوار العالية .لعل وعسي تتنزل الرحمة على قلوب حراس الظلم .

وأكتب اليك عن أربع سيدات أعرفهن يقاسمنك ضريبة العذاب المفروضة بقوة السلاح والمدرعات على شعب حاول ان يغير مصيره بالنزول الى الشوارع والميادين ضد نظام الاستبداد والنهب والفساد والعار وسيحاول.  أربع سيدات من بين آلاف أو عشرات الألوف يصحبن الأبناء والأهل في تلك الرحلات الصعبة الى اسوار السجون البعيدة .

 عن العمة الدكتورة منار الطنطاوي زوجة الباحث والصحفي المتميز هشام جعفر أكتب. وهي لا تجد مبررا ـ وأنا معها ـ لاستهداف زوجها واسرتها بهذه المحنة إلا سعيه الى جمع الفرقاء في بلادنا حول وثيقة لاخلاقيات العمل والخطاب السياسي تتجاوز التحريض والكراهية والتشهير والتحقير وتدعو الى محاربة الارهاب على قاعدة ألا تستخدم هذه الحرب ذريعة لانتهاك حقوق الانسان والحريات  . ولا شئ في الوثيقة ضد الدستور أو القانون أو الدولة المدنية . بل هي من أجل هذا. لكن يبدو ان مشكلة سجاني هشام جعفر معها هو انها قد تفتح الباب الى عودة السياسة وحيث لايقتات عنفهم وتعيش وحشيتهم باسم الدولة وهيبتها إلا على موت السياسة وعلى صناعة الدكتاتور . وأيضا على  اذكاء الاحتراب الأهلى وغياب لغة الحوار السلمي و التحريض على الاقصاء والقبول بالتعذيب والاعتقال والقتل . والمشكلة الآن اننا لم نعد ـ مع الدكتورة منار ـ نخشي فقط على مصير جهود هشام هذه . بل وأيضا على بصره المهدد بقسوة السجون والاهمال والحرمان من العلاج . هكذا البصر وليس البصيرة وحدها .لكنها ـ ونحن معها ـ ما زالت تأمل انقاذ الاثنين . وأخبرك صغيرتي انها ارسلت لي بأول مقال كتبته في حياتها . مقال بعنوان :” شيخ الاصلاحيين بمصر هشام جعفر”.

 وعن والدة علاء وسناء سيف العمة الدكتورة ليلي سويف أكتب اليك. فقد رحل الزوج المناضل والحقوقي أحمد سيف لكنه ترك أسره مناضلة. ومعها هذا الوعي بأن حقوق الانسان لاتتمنع أو تتعطل عند من تختلف معهم فكريا وسياسيا وانها حقوق للانسان لانه انسان .وهذا درس لخصه من قبل المحامي الإنسان نبيل الهلالي حين قال : “في مجال حقوق الانسان لا مكان للانتقائية فى المواقف والازدواجية فى المكاييل .فهناك فقط موقف مبدئى واحد وأصيل هو الدفاع عن حقوق كل انسان.. أى انسان.. أيا كانت عقيدته الدينية او اعتقاده السياسى او منطلقه الايديولوجى.. الدفاع عن الانسان المجرد٬ وليس الانسان المصنف الذى يشاركنى الانتماء والتوجهات.وفى مجال الدفاع عن حقوق الانسان المعيار الأوحد الذى يحدد من هو الانسان هو انسانيته وليس دينه ولألونه السياسى ولا ايديولوجيته. وأنا لم اتوصل الى هذه القناعة باختيار فكرى فحسب.ٕوانما هذه القناعة تولدت لدى من دروس الحياة التى تؤكد أن التغاضى او السكوت عن أدنى انتهاك لحريات الآخرين٬ حتى لو كانوا منافسين سياسيين او خصوم سياسيين او حتى اعداء سياسيين. مثل هذا التغاضى هو سهم لابد ان يرتد الى صدر المتغاضى لأنه يسهل على الدولة البوليسية ارساء قاعدة سرعان ماتعمم على الجميع٬ وتكريس نهج سرعان ما تصيب لعنته الجميع . لذلك لا يجوز أيها الاخوة التعامل مع اى اهدار لحريات خصومنا السياسيين بمنطق (بركة ياجامع) أو بمفهوم (اللى بعيد عن أرسى أهز له كتافي) .. و لقد لقنت مدرسة الحياة الشيوعيين المصريين درسا لا يجب نسيانه سواء من الشيوعيين او غير الشيوعيين. ففى أواخر الخمسينيات اصدر الحاكم العسكرى أمرا عسكريا يبيح له تشغيل المعتقلين أشغال شاقة داخل المعتقلات. ولا بد أن اعترف بان الشيوعيين واليساريين والديمق ارطيين تعاملوا وقتها مع هذا الأم ارلعسكرى باستخاف توهما منهم بانهم غير مخاطبين به. لا فى الحال ولا فى الاستقبال٬ وأنه صدر للتعامل مع المعتقلين من الإخوان المسلمين. ودارت دورة الزمان٬ فإذا بالأمر العسكرى المذكور يطبق لأول مرة ولآخر مرة على المعتقلين الشيوعيين و اليساريين والديمقراطيين داخل سجن (أوردى أبو زعبل) فى اوأخر عام 1959″.

 وهكذا هي حقوق الانسان عند أحمد سيف الاسلام تلميذ الهلالي. ومعه  أسره بكاملها ضد التعذيب وقمع الحريات وانتهاك الحقوق وضد المحاكمات العسكرية والاختفاء القسري وبصرف النظر عن انتماءات الضحايا  . كان الابن ” علاء ” في السجن عندما رحل أبيه وشاهدته عند المدافن مصحوبا بحراسة تحول بيننا وبينه.اختار الابن طريقه هو ايضا طلبا للحرية . فتكرر سجنه من ايام مبارك الى المجلس العسكري الى أيام مرسي .ثم الى هذا العهد لأنه ببساطة لم يستسلم لقانون تظاهر جائر  يطبق فلسفة ” اغلاق الفم ” . وما زال في السجن . وعادت شقيقته سناء ابنة الدكتورة ليلي الصغيرة لتستكمل مسيرة أسرة بكاملها مع الحبس .مسيرة اظنها لم تستثن الشقيقة الثالثة مني . وفي هذه المرة قالت سناء لمنظومة غياب العدالة كلها :” مش لاعبة ” . قالت ” تحقيقاتكم صورية “. و الأم ليلي تواصل الحياة والتضامن مع كل مظلوم وكل قضية عدل .ولا تكتفي بسجناء أسرتها الصغيرة .بل تحمل أعباء وهموم أناس بلا عدد.

 و أكتب اليك عن عمتك السيدة اعتماد زغلول أم المحبوسة روضة خاطر و” أم البنات”المحبوسات و العشرات منهن في السجون بعد تلفيق تهم التظاهر وغيرها من مصائب الكيد السياسي  . وكيف تتنقل بلا يأس بين دمياط وبين سجون بورسعيد والقناطر الخيرية وغيرها وبين القاهرة تتابع وتسعي لتخفيف معاناة البنات ، بما في ذلك توفير مصباح اضاءة لتذاكر بنت هنا او هناك لتستعد للامتحان. وهكذا لم تكتف بحمولة ابنه سجينة واحدة هي روضة .

و أكتب أيضا عن العمة أم المهندس الشاب ” محمد خضر على ” المختفي قسريا منذ مجزرة رابعة العدوية اغسطس 2013 والتي لاتكف عن الاتصال بهاتفه المحمول المغلق . لعل وعسي .و لا تيأس من  تقديم البلاغات و البحث في المستشفيات والسجون والمشارح . ثم تعود للاتصال بهاتفه فيرد :” هذا الرقم غير متاح “. ويظل سؤالها في الذاكرة منذ قابلتها في نوفمبر الماضي :” طب لو كان شهيد من حقه وحقنا اننا ندفنه “. وبعدها اصبحت أتعرف على صوتها من خلف النقاب وهي تصرخ من اجل اطلاق سراح المعتقلين واجلاء مصير المختفين كلما وجد الاحتجاج ثغرة في جدار الدكتاتورية أمام نقابة الصحفيين أو مكتب النائب العام .

 سندس الصغيرة

 ستجدين عندما تكبرين في هذه الاسماء وغيرها لنساء مصريات كماما وعمتو ( فاطمة أخت أبيك) ما يدعو للأمل . فهن لم ييأسن. ولم يستسلمن رغم أن  فوق ظهر كل واحدة منهن أحمالا تثقل القلب و تفاصيل مؤلمة متعبة في حياة صعبة . تفاصيل ربما بدأت تستشعرينها مبكرا مع مصاحبتك لوالدتك وعمتك وللجد في زيارة بابا . ومبكرا عن سنك الصغير ربما بدأت تعينها مع انك لم تذهبين الى مدرسة . ومبكرا جدا الى حد يدعوني لأن اسأل عن أول كلمة نطقت بها لبابا من بين القضبان.وهل حاولت ان تناديه باسمه أو غلبت براءتك وتعثرك في الكلام الفاظ معجم مفروض على اطفال سجناء الدكتاتورية في مصر الآن كـ :”زيارة ” أو “زنزانة” أو “عسكري” . ومبكرا أيضا لعلك سريعا ستفهمين ما أعجزنا نحن الكبار من زملاء والدك : لماذا داهموا فجرا بيت زميلنا محمد البطاوي مع بداية رمضان الماضي ولماذا اختطفوه قسريا لأيام ثم زجوا به في اتهامات ملفقة لا يمكن تصديقها ؟.ولماذا مازال محبوسا  بعيدا عن ابنته سندس؟  .وهل هو هذا المقال الذي عثر فيه على تسعة فروق بين سيارة الاسعاف والمدرعة في ” جيسي ستان” وبعدما تصادف ان حدثت أمور مشابهة هناك في مصنع للأسمنت سيناء ؟.

  إبنتي سندس

 احتفظ لك بقصاصة ورق من جرائد تمجد الطغاة وتحول كل مأساة الى ملهاة . جرائد لاتنشر أبدا عما يحدث هنا وكأنها تصدر من “جيسي ستان” أو أي ” ستان” في الخيال. هي قصاصة صغيرة من الأيام الأولى لرمضان هذا العام تتحدث على لسان مسئول كبير في وزارة الداخلية عن الامتيازات التي ينعم بها سجناء نظام لا يفرق بين عربة الاسعاف والمدرعة . قصاصة بعنوان :”لا تعذيب عندنا وليس لنا علاقة بالاختفاء القسري “. وكلي ثقة بأنك ستقرأينها يوما مع بابا وتضحكان . نعم ستضحكان .

 فحتى هذه الكذبة قابلة لاثارة الضحك .

دامت لنا ضحكتك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق